06
يونيو

فريضة الجهاد ووحدة القبائل التونسية

) مع العجوز المتمرد الشيخ الزيتوني علي بن خليفة بن راشد النفاتي ) 1807  1885

المجاهد التونسي ، الملقّب بالعجوز المتمرد ) 78 عاماً( ، بل من أشهر المجاهدين ، وهو صاحب المقولة الشهيرة : ” الآن

أصبحت طاعة الباي كفرا “

هو أول المجاهدين الذين قاوموا الاحتلال الفرنسي عند انتصاب الحماية حيث تجمعت حوله أهم القبائل والعروش بالجنوب

الشرقي والغربي وقد كانت له مواجهات شجاعة ، عنيفة ومشهورة مع قوات الاحتلال الفرنسية.

نفاتي نسبة الى قبيلة ” نفات ” المنحدرة من قبيلة بني سليم النجدية العربية القادمة الى بلاد شمال إفريقيا مع الزحف الهلالي .

ينتمي الى عائلة ” أولاد خليفة ” التي تولت حكم القبيلة على امتداد القرون الأربعة التي سبقت خروج الاحتلال المباشر.

تولى المناصب المخزنية حتى صار عاملا ) واليا ( . أمّا على المستوى العسكري فيذكر المؤرخون انه وصل لأعلى رتبة

عسكرية في الجيش التونسي )أمير لواء( ، وقد ولى الباي الشيخ علي بن خليفة ولاية عدة مناطق هامة آخرها ” الأعراض “

حيث أدركته الحماية الفرنسية. وحيث أعلن الثورة وبدأ مقاومة الاحتلال .

لم يتردد النفاتي في خلع بيعته للباي محمد الصادق بمجرد توقيع هذا الأخير على معاهدة الحماية الفرنسية وأطلق مقولته

الشهيرة على الملإ في مقر حكمه بمدينة قابس : ” الآن أصبحت طاعة الباي كفرا ” والتي كانت إيذانا بانطلاق الثورة ضد

الغزاة الفرنسيين والباي وأعوانه معا . اهتز الولاء الشيخ الرسمي و الشرعي إثر استسلام محمد الصادق باي للفرنسيس ؛ فقد

خان البلاد و باعها للأجنبي الكافر بما أوجب الجهاد في سبيل الله لتحريرها .

بادر الشيخ الى جمع المجاهدين من مختلف القبائل وتنظيمهم في إطار واجب جهاد الدفع الذي لا يحتاج إلى إذن أحد . وهذا لم

يكن سهلا لولا تمكن جانب الدين من قلوب التونسيين وإن كانت النزاعات القبلية هي الطاغية ؛ نزاعات خلفت معارك ،

ومعارك قبيلته ” نفات ” مع ” بني زيد ” مستعرة و أشهر هذه المعارك بينهما هو ” يوم الطرفاوي ” قرب هنشير الشعال و

هي معركة شديدة الضراوة ، إلا القبيلتين توحدتا صحبة عروش العڨاربة و جلاص و الهمامة و المثاليث خلف الشيخ علي بن

خليفة كقائد للجهاد .

وحتى محاولات محمد الصادق باي بإيعاز من سلطات الحماية الفرنسية لاستقطاب زعماء القبائل الى جانبه بذريعة ان مصلحة

البلاد كانت تقتضي التوقيع على معاهدة الاحتلال ، باءت بالفشل . فتجمعت حوله أهم القبائل والعروش بالجنوب الشرقي من

نفات والمثاليث والهمامة وجلاص وبني زيد وغيرهم .

بادر بتسليح كل من يقدر على حمل السلاح من أبناء قبيلته ” نفات ” وإعدادهم لخوض غمار الحرب . وانطلق في حرب

عصابات لمواجهة الفرنسيس ؛ فقد مرّ الشيخ بمدينة صفاقس يوم 15 جوان 1881 ، وبعد عشرة أيام فقط اعترض الشيخ

طريق فيلق عسكري من الحامية التونسية قام بإبادته بعد معركة قصيرة بأرض ” المهاذبة ” جنوب صفاقس ، وهو في طريقه

الى مقر قيادته في ” دار الفريك ” في قابس . واستطاع الشيخ علي النفاتي إثر هذه المعركة توسيع قواته لتشمل فرسانا من

قبائل أخرى .

ولعله في هذه الفترة كان إشرافه على الاجتماع الكبير الذي حضره قادة العروش وأعيان العاصمة في جامع عقبة وقد ركز في

خطبته على واجب الجهاد والولاء للخلافة العثمانية ، ثم أرسل مبعوثين إلى باشا طرابلس لاستنهاضه وطلب المدد .

وقد طلب المجاهدون أهلُ صفاقس من الشيخ علي بن خليفة القدوم للمدينة للانخراط في الدفاع عنها إذا هوجمت . فلبى داعي

الجهاد ودخل صفاقس يوم 2 جويلية على رأس 3000 فارس من القبائل . واستُقبل من قبل قادة المقاومة في صفاقس بحفاوة

حتى أن محمد كمون أطلق عليه لقب ” ناصر الدين “. وكلفت بمهمة الدفاع عن المدينة من خارج الأسوار. وشارك بشكل قوي

في الدفاع عنها في الأيام الأولى من الهجوم الفرنسي منذ 5 جويلية. إلا أن المحاولة الفرنسية الثانية كانت عنيفة مستعملة كامل

. ترسانتها الحربية وتمكنت من احتلال المدينة يوم 16 جويلية 1881

وعلى الرغم من عدم تكافؤ القوى ، فقد تمكن الشيخ علي بن خليفة من قيادة معارك باسلة أظهر خلالها قدرات عسكرية فائقة ،

وبطولات حيّرت الضباط الفرنسيس الذين كانوا يقودون الحملة ؛ مما حدا بالمؤرخ الفرنسي “مارتال” إلى القول في كتابه

“حدود تونس الصحراوية الطرابلسية” : ” إن فرسان الشيخ علي الأبطال قد وقفوا سدّا منيعا أمام الجيش الفرنسي بمدافعه

وتجهيزه الحربي الكبير حيث اضطروه الى القبوع في مواقعه والاحتماء بسفنه 15 يوما ولولا وصول المدد ونفاد الذخيرة عن

المجاهدين لكانت أحواز صفاقس مقبرة للفرنسيين ولانقلبت الآية لصالح الثورة في المعركة التي انتهت يوم 17 جويلية 1881

.”

وبعد خسارته معركة صفاقس اضطر الشيخ النفاتي إلى التوجه نحو منطقة ” ودران ” جنوب شرق الإيالة التونسية ، حيث قام

من هناك بتجديد اتصالاته ببقية جبهات المقاومة . كما قام بإرسال حملة تكونت من خمسمائة فارس وألفين من المشاة ، ألحقت

خسائر كبيرة بممتلكات الباي في العاصمة ، وعادت بألف رأس من الإبل ، دون أن تتمكن القوات الفرنسية من تتبعها.

وخاض الشيخ علي بن خليفة معركة أخرى دامية من أجل فك الحصار المضروب على مدينة قابس، التي قامت القوات

الفرنسية بعملية إنزال كبير في مينائها ، واستمرت في قصف المدينة من البحر بالمدفعية لأيام طويلة ، وقاد ذلك الى سقوط ما

يزيد عن خمسين شهيدا يوم 31 جويلية 1881 دفاعا عن مقر الشيخ المعروف ب ” دار الفريك ” الذي تم تدميره بالكامل .

ورغم مرارة الهزيمة في صفاقس وقابس لم ييأس الشيخ علي بن خليفة وأصرّ على أن تواصل الثورة غليانها بالاعتماد على

ثبات المجاهدين وقدراتهم الذاتية… ففي منتصف اكتوبر 1881 تقدم الشيخ الثائر بقواته شمالا إلى أن وصل القيروان ، لكنه

اضطر في منتصف شهر نوفمبر 1881 إلى الزحف نحو بلدة ” وذرف ” الجنوبية ، ليتخذها مقرا جديدا لقيادته العسكرية ،

ويقود من خلالها آخر معارك الدفاع عن قابس وضواحيها ، وذلك قبل سقوطها بشكل نهائي في أيدي القوات الفرنسية الغاشمة

.

وإثر سقوط مدينة قابس وقد استفرغ الشيخ وسعه في جهاد الكفار الفرنسيس ، انسحب العجوز المتمرد بصمت نحو ليبيا رافضا

العيش يوما واحدا تحت سلطان القهر الصليبي ، وظل يحرض الجميع ضد الباي الخائن وضد فرنسا المتغطرسة . وفي هذا

الخصوص أرسل رسالتين إلى رئاسة الوزراء وإلى وزارة الحربيّة في الخلافة العثمانية بواسطة ابن أخيه الحاج محمد ،

بتاريخ 20 جمادى الثانية سنة 1299 ه/ الموافق ل 9 ماي سنة 1882 م ، مختومتان بختمه ؛ عبر فيهما عن الولاء الخالص

للدّولة العليّة وما بذله في سبيل الدّفاع عن الوطن من جهود مضنية موجّها الدّعوة لإرسال المدد “عسى أن تنفحنا بارقة تنمحي

بها ما حلّ بنا وتلمّ شعثنا وتهنّينا في وطننا.

وانتقل الحاج محمد إلى دار السّعادة حاملاً الرّسالتين باللغة العربية. وقد ذكر تقرير صادر عن رئاسة الوزراء أن “المومَى إليه

الحاج محمد قدم إلى دار الخلافة العليّة وقدّم الإفادات وطلب من السّلطنة السّنية تقديم المساعدة ، وسوف يقع عرض هذا

الطلب على حضرة السّلطان ، وتم الاستفسار عن مكان وجوده الشّيخ النفاتي في الوقت الحالي ، فاستفيد أنّه مقيم في مكان

مناسب بالقُرب من حدود طرابلس الغرب ، وأنّه من غير المحتمل أن يصل الفرنسيّون إلى ذلك المكان”. وبما أنّه في مكانٍ

آمن ، فمن الأفضل أن لا يقع منح الفرنسيّين ذريعةً لإلحاق مزيد من الأذى بالتّونسيين إلى أن يقع اتخاذ الإجراءات المناسبة

بخصوص التّدخل الفرنسي.

لكن هذه الإجراءات المأمولة لم يتحقق منها شيء لانشغال الدّولة العثمانية بأوضاعها الدّاخلية الصّعبة ، خاصة وأنها خرجت

قبل وقت قصير من حرب مدمّرة مع روسيَا .

بقي الشيخ يأمل في أن يأتيه المدد من فرسان القبائل لمواصلة المقاومة . والتحق بالمجاهد علي بن عمار العياري الذي هاجر

صحبة ثلاثين من أتباعه ومنهم ابنه بلقاسم نحو طرابلس بعد أن اشتدت محاصرة قوات الاحتلال الفرنسي للمجاهدين مع تباين

موازين القوى من حيث العدة والعتاد وقد سبقهم أعداد كبيرة من التونسيين الذين هاجروا من قسوة الغاصب الفرنسي .

ولم يكفوا عن ضرب مواقع المحتلين المتاخمة لليبيا ، رافضين الخُنوع للاحتلال الفرنسي .

ومن هناك واصل الشيخ النفاتي جهوده في التّحريض ضدّ الباي وضدّ الجيش الفرنسي .

ومن أجل إحباط عزائم المقاومين نشرت الصّحف الفرنسية أخبارًا كاذبة ومضللة مفادها أنّ الشّيخ علي بن خليفة قد استسلم

للفرنسيّين وأنه ألقى السّلاح ، غير أن الوقائع أثبتت خلاف ذلك . فقد ثبت الشيخ على موقفه الرّافض للاحتلال الفرنسي رغم

تراجع زخم المقاومة في تونس .

والحملات التي قامت بها جريدة الجوائب التابعة للمخابرات الفرنسية للتشهير والتشويه ضدّ الشيخ بقيت وصمة عار في وجه

الإعلام الفاسد ؛ فقد مات المجاهد على ما عاش عليه ؛ ممتطيا صهوة جواده بالزاوية الغربية التي تبعد حوالي 40 كم عن

مدينة طرابلس ، متوجها نحو الحدود التونسية . أدركه المنون في جويلية ودفن حيث مات . وإثر وفاته رجعت عائلته الى

ولاية قابس، كما رجع أغلب المهاجرين الذين غادروا البلاد التونسية معه ، خصوصا بعد أن يئسوا من إعانة العثمانيين .

ولئن انهزم في المعركة فقد انتصر في مبادئه ونصرة دينه ، وخلد الله اسمه وموقفه وفقهه وجهاده رغم شيخوخته ، فاستجاب

للمأمور فحقق المقدور وحسبه ذلك .

ولا تزال شنني من ولاية قابس ونفات برجالها وفحولها تفخر وتقتدي بشيخها الزيتوني وقائدها الرباني .

ومن محاسن الأمور ما قام به مركز الفنون الركحية والدرامية بقابس من إظهار بطولات الشيخ المجاهد في عمل مسرحي

ملحمي يؤرخ لسيرته من إخراج الفنان القدير صالح الجدي ؛ مما يغرس في الناس روح الجهاد إلى أن يتحقق مرادالله

ويتحقق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو داود والترمذي ، وقال: حديث حسن صحيح عن عبد اللهبن

مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم : ” لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلا مني أو من أهل

بيتي يواطىء اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ” .

الشيخ زهير الجندوبي