05
يونيو

الأخذ من الشعر والأظافر للمُضحّي ليس حرام

ورد في المسألة حديثان متعارضان:

الحديث الأول : هو حديث أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” إذا دَخَلَتْ الْعَشْرُ وَ أَرَادَ أحدكم أَنْ يُضَحِّيَ فلا يَمَسَّ من

شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شيئا ” . وفي لفظ : ” إذا دخل الْعَشْرُ وَعِنْدَهُ أُضْحِيَّةٌ يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّيَ فلا يَ أْخُذَنَّ شَعْرًا ولا يَقْلِمَنَّ ظُفُرًا ” . وفي لفظ : “

إذا رَ أَيْتُمْ هِ لَا لَ ذِي الحجّة وَ أَرَادَ أحدكم أَنْ يُضَحِّيَ فَلْيُمْسِكْ عن شَعْرِهِ وَ أَظْفَارِهِ ” . أخرجه الإمام مسلم في صحيحه .

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُهْدِي من المدينَةِ فَ أَفْتِلُ قَ لَا ئِدَ هَدْيِهِ ثُمَّ لَا يَجْتَنِبُ شيئا مِمَّا « : والحديث الثاني : أَنَّ عَا ئِشَةَ رضي الله عنها قالت

يَجْتَنِبُه المُحرِمُ ” . أخرجه البخاري وسلم . وفي أحد ألفاظه عندهما : عن عَمْرَةَ بِنْتِ عبد الرحمن : ” أَنَّ زِيَادَ بن أبي سُفْيَانَ كَتَبَ

إلى عَا ئِشَةَ رضي الله عنها : إِنَّ عَبْدَالله بن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال : من أَهْدَى هَدْيًا حَرُمَ عليه ما يَحْرُمُ على الحاجِّ حتى يُنْحَرَ

هَدْيُهُ . قالت عَمْرَةُ : فقالت عَا ئِشَةُ رضي اللهعنها : ليس كما قال بن عَبَّاسٍ ، أنا فَتَلْتُ قَ لَا ئِدَ هَدْيِ رسول الله صلى الله عليه وسلم

بِيَدَيَّ ثُمَّ قَلَّدَهَا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بِيَدَيْهِ ثُمَّ بَعَثَ بها مع أبي فلم يَحْرُمْ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ أَحَلَّهُ الله

حتى نُحِرَ الْهَدْيُ ” .

من العلماء من مال إلى تضعيف حديث أم سلمة رضي اللهعنها ؛ للاختلاف في رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث وَقَفَهُ بعضُ الرواة

على أم سلمة رضي الله عنها ، فجعل الحديثَ من كلامها لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم . والحقُّ أن الاختلاف في تضعيف حديث أم سلمة

رضي الله عنها اختلافٌ قويٌّ ، مع كونه حديثًا في صحيح مسلم . فقد مال إلى تضعيفه الإمام الدارقطني وهو أحد كبار نقاد الحديث .

ومع هذا الاختلاف القويّ إلا أن الأرجح عندي فيه هو صحة الرفع مع ردِّ ظاهره جمعا بين الأدلة. وتصحيحه هو ما كان عليه أكثر

النقاد كالإمام أحمد والترمذي والطحاوي وابن حبان والبيهقي وأبي مسعود الدمشقي وغيرهم ممن صححه . ومع ذلك فيبقى

التضعيف قولا وجيهًا حتى إن الإمام الطحاوي مع ترجيحه قبولَ الحديث المرفوع ، لم يستطع إغفالَ الفرق الكبير في درجة الصحة

بين حديث أم سلمة وحديث عائشة المعارِض له حيث قال في كتابه )شرح معاني الآثار( : ” فَفِي ذلك دَلِيلٌ على إبَاحَةِ ما قد حَظَرَهُ

الْحَدِيثُ ا لأَوَّلُ وَمَجِيءُ حديث عَا ئِشَةَ رضيالله عنها أَحْسَنُ من مَجِيءِ حديث أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها ؛ لِأَنَّهُ جاء مَجِي ئًا مُتَوَاتِرًا

وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها : فلم يَجِ ئْ كَذَلِكَ ” . بل لقد نقل ابن عبد البر عن أكثر أهل العلم تضعيفَ حديث أم سلمة رضي الله

عنها ، ولعله أراد أن عدم أخذ عامة الفقهاء بحديث أم سلمة رضي الله عنها يدل على تضعيفهم له ، وقوله له وجهُهُ الذي تؤيده

القواعد بتقسيم الفقهاء للحديث إلى مقبول وإن ضعف سنده ومردود وإن صحّ سنده . فإن عدم الأخذ بظاهر الحديث لا يلزم منه

التضعيف ؛ إذ قد يكون مبنيًّا على توجيه فهمه .

ومن العلماء من مال إلى التحريم أخذا بحديث أم سلمة وذهب إلى الجمع بين حديثي أم سلمة وعائشة رضي اللهعنهما بأحد وجهين

:

الأول : وهو الجمع الذي اختاره الإمام أحمد متبعا شيخه يحيى بن سعيد القطان ؛ قال الإمام أحمد : ” ذكرتُ لعبدالرحمن بن مهدي

حديثَ أمِّ سلمة وحديثَ عائشةَ : ” كان النبي صلى اللهعليه وسلم إذا بعث الهدي لم يحرم عليه شيء ” ؟ فبقي ساكتا ولم يجب .

وذكرتُه ليحيى بن سعيد ؟ فقال : ذاك له وجهٌ وهذا له وجه : وحديث أم سلمة لمن أراد أن يضحي بالمصر وحديث عائشة لمن بعث

بهديه وأقام . )قال الإمام أحمد( وهكذا أقول : حديث عائشة هو على المقيم الذي يُرسل بهديه ، ولا يريد أن يضحي بعد ذلك الهدي

الذي بعث به ، فإن أراد أن يضحي لم يأخذ من شعره شيئا ولا من أظفاره ، على أن حديث أم سلمة هو عندي على كل من أراد أن

يضحي في مصره ” .

وابنُ عبد البر ردّ هذا الجمعَ فقال : ” قد صحَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم إذْ بعث بهديه لم يجتنب شي ئًا مما يجتنبه المحرم ، وصحَّ أنه كان

يُضَحِّي صلى الله عليه وسلم ويحضُّ على الضحية ، ولم يصحَّ عندنا أنهصلى الله عليه وسلم في العام الذي بعث فيه بهديه )ولم يبعث بهديه لِيُنْحَرَ عنه بمكة ؛

إلا سنةَ تسعٍ مع أبي بكر( ولا يُوجَد أنه لم يُضَحِّ في ذلك العام ” .

ويدعم ردّ ابن عبد البرّ : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الضحية حتى في حجة الوداع . قال ثوبان رضي الله عنه : ضَحَّى رسول الله

صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قال : ” يا ثَوْبَانُ أَصْلِحْ لنا لَحْمَ هذه الشَّاةِ ” قال : فما زِلْتُ أُطْعِمُهُ منها حتى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ . أخرجه مسلم وأبو داود واللفظ

له . فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الضحيةَ في حَجِّة الوداع مع كونه صلى الله عليه وسلم قد ساق معه من الهدي مائةً من الإبل نُحرت كلها بمنى

يوم النحر فكيف يترك الضحية إذا أرسل هَدْيَه ليُنحر بعيدًا عنه بمكة ؟

بل إن من بعث بالهدي أشبهُ حالاً بالمحرِمِ ممن اكتفى بالتضحية في بلده . وهذا الشَّبَهَ القوي هو الذي جعل ابن عباس رضي الله

عنهما يقيس غير الحاجّ على المحرم في ترك محظورات الإحرام ؛ واجتهاده هذا هو الذي ردّته عائشة كما في الصحيحين . كما أن

هذا الاجتهاد هو كاجتهاد عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : فقد صحَّ عنه أنه ” كان إذا بعث بالهدي يُمسك عما يمسك عنه المحرم

غير أن لا يُلبّيَ .

. فالجمع الذي رضيه الإمام أحمد ضعيف من جهة الفقه والقياس ؛ فإن كان من أراد أن يُضحي عليه أن يمسك عن شعره وظفره ،

فمن بعث بهديه أولى بأن يمسك عنهما .

وهو ما أشار الإمام الشافعي في تعقيبه على حديث عائشة : ” البعثةُ بالهدي أكبر من إرادة الضحية ” .

بل ذهب الإمام الماوردي )ت 450 ﻫ( إلى أن رسولِاللهصلى الله عليه وسلم بعث ضحاياه مع هديه فقال : ” فكان هَدْيَ رسولِاللهصلى الله عليه وسلم

وضحاياه ؛ لأنه كان بالمدينة ، وأنفذها مع أبي بكر سنةَ تسعٍ . وحُكْمُها أغلظُ ؛ لِسَوْقِها إلى الحرم . فلما لم يُحَرِّمْ على نفسه شي ئًا

كان غيره أولى إذا ضَحَّى في غير الحَرَمِ ” .

وبهذين الجوابين يتبيّنُ أن هذا الجمع الذي ذهب إليه الإمام أحمد وشيخه ليس هو الجمع القوي الذي يمكن أن يحلّ إشكالَ التعارض

بين الحديثين .

وأضعف من جمعهما جمعُ الإمام الطحاوي ، إذ ذكر من روايات حديث عائشة رضي الله عنها هذا اللفظ : ” كنت أفتل قلائد هدي

رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يبعث بالهدي ويقيم عندنا لا يجتنب شي ئًا مما يجتنبه المحرم من أهله حتى يرجع الناس فجعل حديثَ عائشةَ في

عدم الامتناع عن الجماع خاصة وحديثَ أمِّ سلمةَ في الإمساك عن الشعر والظفر.

وهو أضعف لأنه إنما استدلّ بأحد ألفاظ الحديث وترك الألفاظَ الأخرى الصريحة في التعميم ، ومنها ما جاء في الصحيحين : كقولها

رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم : ” ثُمَّ لَا يَجْتَنِبُ شيئا مِمَّا يَجْتَنِبُه المُحرِمُ ” وفي الرواية الأخرى : ” فلم يَحْرُمْ على رسول اللَّهِ

صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ أَحَلَّهُ الله حتى نُحِرَ الْهَدْيُ ” .

و لأن ابن عباس رضي الله عنهما لم يكن يمتنع عن الجماع فقط حين ردّت عليه عائشة رضي الله عنها ، بل كان يترك كلَّ شيءٍ

يتركه المحرم حتى إنه كان يتجرّد من ملابسه ؛ فعن رَبِيعَةَ بن عبد الله بن الهُدير أنه رَ أَى عبد الله بن عباس وهو أميرٌ على البصرة

في زمن علي بن أبي طالب مُتَجَرِّدًا على منبر البصرة فَسَ أَل الناس عنه ؟ فقالوا : إنه أَمَرَ بِهَدْيِهِ أن يُقَلَّدَ ؛ فَلِذَلِكَ تَجَرَّدَ .

قال رَبِيعَةُ: فَلَقِيتُ عَبْدَ الله بن الزُّبَير فَذَكَرْتُ لَه ذلك . فقال : بِدْعَةٌ وَرَبِّ الكَعْبَةِ ” .

و نقول إذن إن من مال من العلماء إلى الكراهة قد أصاب في طريقة الجمع بين الحديثين ؛ وذاك هو قول الجمهور : وهو ما ذهب

إليه المالكية و حتى بعض الحنابلة ، وابن المبارك ، وقال ابن عابدين في حاشيته : ” ومما ورد في صحيح مسلم : قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم : ” إذا دخل العشر وأراد بعضكم أن يضحي فلا يأخذن شعرا ولا يقلمن ظفرا ” فهذا محمولٌ على الندب دون الوجوب

بالإجماع ” .

ومهما كان اجتهاد الفقهاء في توجيه الحديثين المتعارضين ؛ وحتى لو سلم حديث أم سلمة من المعارضة لم يدلّ على تحريم الأخذ

من الشعر والظفر ، ولم يدلّ إلا على مجرد الكراهة ، بل الكراهة التنزيهية.

ذلك أن الضحية نفسها سنّة ، وهذا قول عامة الفقهاء . وقد دلَّ استقراء أحكام الشريعة واطّرادُ أصولها على أنه لا يمكن أن تستحبَّ

الشريعةُ شي ئًا ، ثم تُوجب له أمرًا لا هو من شروطه ولا جزءًا من أجزائه الواجبة ؛ حيث إن هذا لو وقع لكان تناقضًا لا يقبله ترتيبُ

الأحكام الشرعية بعضها على بعض ؛ إذ كيف يكون الأصل مستحبًّا وفَرْعُه الذي ليس من شروطه ولا من واجباته واجبًا؟؟ .

بخلاف ما لو كان الأمرُ شرطا من شروط الصّحّة للنافلة ، أو واجبًا من واجباتها ، كالطهارة التي هي شرطٌ لصلاة النافلة ،

وكأداء أركان حج النافلة أو أركان صلاة النافلة وواجباتهما ؛ فإن أداء هذه الشروط والأركان كله واجبٌ على من أراد الدخول في

تلك النوافل أو شرع في أدائها ، مع أن أصل تلك الأعمال ليس واجبًا ابتداءً ، لكن بعزم الدخول فيهما وجب تحقيقُ شروطهما ،

وبالشُّرُوع في أدائهما وجبا ووجب أداء واجباتهما وأركانهما.

وأما الأخذ من الشعر والظفر فليس من شروط الأضحية ؛ لا ركنا لها ولا واجبا ، بدليل أن الأخذ من الشعر والظفر لا يمنع من

صحتها ، بلا خلاف بين العلماء ، حتى عند من رأى تحريم الأخذ من الشعر والظفر للمضحي كالحنابلة والظاهرية . فدل ذلك على

أن النهي عن الأخذ من الشعر والظفر ليس نهيا للتحريم ، وإنما هو نهيٌ على الكراهة فقط ؛ لأن انفصال حُكم الأخذ من الشعر

والظفر عن شروط الضحية وواجباتها ، مع أن الضحية نفسها مستحبة دون وُجُوب يُلزِمُ بأن يكون ما ترتّب على استحبابها من غير

شروطها ولا واجباتها مستحبًّا أيضًا .

وبذلك يكون الراجح في الأخذ من الشعر والظفر لمن أراد الضحية هو عدم التحريم ، كما هو قول جمهور الأئمة ، وأنه مكروه

كراهة تنزيه ، ومن فعله لا تثريب عليه ، وهذا في حقّ المُضحّي فقط . أما من ضحّى عنهم وأدخلهم في ثواب أضحيته كزوج وأبناء

فلا يشملهم الأمر ، وأما أضحيته فصحيحة بالإجماع .

الشيخ زهير الجندوبي